عبر مدخل خاص في منطقة “مارينا باي”، التي تعد المركز المالي والتجاري الأشهر في سنغافورة، عبرنا إلى مقر شركة “تيك توك” الأبرز في آسيا، مررنا بعدة طوابق هادئة، قبل أن نصل الي وجهتنا، وهي: مركز الشفافية والمساءلة (Transparency and Accountability Centre )، والذي يعرف اختصارات باسم (TAC).
المركز هو والوحيد من نوعه لمنصة تيك توك في آسيا وأفريقيا، والأكبر عالميًا، بالإضافة الي مركزين في أمريكا بمدينتي “واشنطن ولوس انجلوس”، بالإضافة لمركز وحيد في أوربا، تحديدا في دبلن بايرلندا، تم افتتاحه في أكتوبر 2024، وبشكل عام لا يتجاوز عمر أقدم هذه المراكز خمسة أعوام، تأسست وقتها تحت ضغوط أمريكية، وعالمية لدفع المنصة للمزيد من الانفتاح والشفافية، وهو ما حدث بنسبة كبيرة مقارنة ببقية الشبكات الاجتماعية.
ما هو دور المركز؟ حسب ما قيل على الموقع الرسمي فهو مسؤول عن عدة أدوار حيوية في تيك توك، مثل: مراجعة سياسات المحتوى، وحماية المستخدمين وتلقى شكواهم، وتقديم تقارير الشفافية الربع سنوية والسنوية، ويقوم كذلك بالتواصل مع الجهات التنظيمية، كل هذا يجعل المركز خط الدفاع الأول عن سمعة المنصة، والتي لطالما تعرضت لهجوم كبير من الحكومات، والمنظومات الدولية، والمؤسسات المدنية والتعليمية، حتى الأعمال الدرامية ترصدت لها بحق وبغير حق.
فهناك أكثر من عشر دول منعت خدمات تيك توك كليًا أو جزئيًا على فترات زمنية مختلفة، والغريب أن أغلبها في آسيا مثل: (الهند، تايوان، نيبال، أفغانستان، باكستان، كوريا الشمالية، الأردن)، بالإضافة إلى الاتحاد الأوربي، الذي حظر التطبيق على أجهزة الموظفين داخل البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية منذ عام 2023، وقبل وبعد كل هذا لعبة شد الحبل بين أمريكا والصين، والتي تدفع تيك توك جزء كبير من ثمنها.
الطابق رقم: 26
في الطابق السادس والعشرين توقفنا، حيث ساد الهدوء بصورة لافتة أرجاء المكان، كنا مجموعة من رؤساء التحرير من مصر والسعودية والإمارات، وهي الزيارة الأولى من نوعها لوسائل إعلام من الشرق الأوسط، وكانت ترتيبات الزيارة سريعة ومضغوطة، وتحمل هدف وحيد، التعرف على كيف يعمل مركز تيك توك للشفافية والمساءلة TAC؟
ورغم أن المركز ليس الأول من نوعه بين منصات الشبكات الاجتماعية، إلا أنه الأول الذي يسمح بزيارات للصحفيين، ومؤسسات المجتمع المدني، والهيئات الدولية والحكومية، وهي خطوة شجاعة لا شك في ذلك، وتحسب لمنصة “تيك توك” بالطبع، ويجب أن تكون هذه قاعدة في عمل الشبكات الاجتماعية، وتقول موظفة المركز التي رحبت بنا بابتسامة عريضة عند المدخل: “نستقبل يوميًا عشرات الأفراد من أنحاء مختلفة من العالم، من صحفيين وصناع سياسات وشخصيات عامة وأجهزة تنظيمية ومؤثرين. نفتح لهم أبوابنا لكي يلقوا نظرة على الداخل، بل ويقوموا ببعض التجارب التفاعلية، كما سترون”.
قد تبدو مهمة عمل المركز سهلة، ولكن بالنظر إلى حجم المحتوى المتدفق، سندرك أنها مهمة شاقة، فنحن نتحدث عما يقارب 1.5 مليار مستخدم نشط شهريًا على المنصة، يقومون بتحميل 34 مليون فيديو يوميًا، أي ما يقرب 1.4 مليون فيديو كل ساعة، حسب إحصاءات STATISTA غير الرسمية،ولا عجب في ذلك، فمتوسط وقت المشاهدة اليومي على المنصة يتجاوز 90 دقيقة لكل مستخدم، وتُظهر الإحصائيات أن الفئة العمرية بين 18 و24 عامًا تستحوذ على أكثر من 52.8% من إجمالي صناع المحتوى على تيك توك، مما يؤكد شعبية التطبيق بين الشباب.
وذكرت المشرفة التي أخذت تشرح لنا طبيعة عمل المركز، أن هناك ملايين من فيديوهات المحتوى التي تتدفق يوميًا، ويأتي معها الكثير من النماذج والابتكارات الجديدة التي يُدخلها المستخدمون إلى المنصة، وهذا الحجم الضخم، والمتدفق والمتجدد، يجعل الوصول إلى ضبط محكم أمرًا مرهقًا للغاية، نظرًا لنشاط وضخامة قاعدة مستخدمي تيك توك العالمية.
محططات مركز TAC
بدأت جولتنا بالتعرف على أبرز أقسام مركز TAC، بهدف توضيح آليات عمل “تيك توك” في ما يخص الرقابة، والإشراف على المحتوى، وهي:
- معرض صُنّاع المحتوى: يستعرض تطور أبرز صُنّاع المحتوى على المنصة، مع تحليل لرحلاتهم الإبداعية وتأثير “تيك توك” على مسيرتهم، وتم استعراض العديد من النماذج العالمية، للأسف لم أشاهد أي نماذج من المنطقة العربية.
- مركز الخصوصية والأمان: عبر عروض بصرية متحركة، يتم تقديم شرح مفصل حول كيفية عمل “تيك توك” لحماية بيانات المستخدمين وتأمين المنصة، وهو ما كان محور تركيز واهتمام من مسؤولي تيك توك طوال وقت الجولة.
- محطة مراقبة المحتوى: كانت هذه هي التجربة التفاعلية الوحيدة التي أتيحت لنا، وهي محاكاة لعمل المشرفين على المحتوى، حيث يتم استعراض حالات لمحتويات تم الإبلاغ عنها من قبل المستخدمين، أو عبر الرصد الآلي بتقنيات الذكاء الاصطناعي. بعد ذلك، يجب اتخاذ قرارات بشأن هذه المحتويات، وفي حالة الحذف، يجب ربط القرار ببنود تعكس سياسات المجتمع المعلنة في تيك توك. للأسف، لم يُسمح لنا بتصوير هذه التجربة، رغم أنها كانت الجزء الأكثر تشويقًا في الجولة!
- التعرف على لوغريتمات تيك توك: التعرف على خوارزميات تيك توك أحد أهم الأسرار في عالم اليوم، وكان هناك قسمًا مخصصًا لاستعراض آليات عمل المنصة من الناحية التقنية، مع شرح مفصل حول كيفية تشغيل خوارزميات التوصية والمراقبة، ولكن للأسف لم يُسمح لنا بدخول هذا القسم، رغم أنه كان غاية في أهمية، فالجميع يرغب في إلقاء نظرة على “سر الخلطة”، ومنطق ترشيحات المحتوى على تيك توك، وخاصةً قسم “For You”.
حسب ما رأينا وسمعنا، تعتمد آلية العمل داخل المركز في معظم جوانبها على التزاوج بين العنصر البشري والذكاء الاصطناعي لتحليل الفيديوهات باستخدام الكلمات المفتاحية والصور والعناوين والأصوات، في حال اكتشاف انتهاكات واضحة، تتم إزالة المحتوى تلقائيًا، خاصة إذا تضمن مشاهد أو صورًا غير لائقة، أو كان به تهدد لسلامة القُصّر، وهو ما يتم التعامل معه بجدية، حسب ما قيل لنا. أما في الحالات غير الواضحة، فتتم إحالتها إلى فرق السلامة من العناصر البشرية، لمراجعتها قبل اتخاذ القرار المناسب. ولم توضح تيك توك نسب هاتين الحالتين، لكن من الطبيعي أن تكون الحالات الثانية أقل بكثير.
وتقول إيلانا روزنزوج، رئيس السلامة والنزاهة في تيك توك آسيا والمحيط الهادئ، وتشغل كذلك منصب الرئيس المؤقت لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقي:” بالطبع لا يمكن رصد كل هذا العدد يدويًا، لذا نقوم بالاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي في مراحل أولية، تحت إشراف ومراجعة من عناصر بشرية مدربة وخبيرة من فريقنا عملنا، الذي يصل الي 40 ألف موظف حول العالم، يجيدون أكثر من 70 لغة”.
تيك توك والذكاء الاصطناعي
يستخدم تطبيق “تيك توك” تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل واسع لمراقبة المحتوى المنشور، سواء عبر التحميل المباشر أو البث الحي، وفق معايير محددة مسبقًا، وتشمل هذه الإجراءات حذف الحسابات نهائيًا، أو مؤقتًا لضمان بيئة رقمية أمنة قدر الإمكان. وتضيف، إيلانا روزنزوج: “يسعى مركز الشفافية في تيك توك إلى الحد من وصول المحتويات غير اللائقة إلى الأطفال، استنادًا إلى الفئات العمرية المختلفة”. وتشير الي أنه يتاح للآباء مراقبة المحتوى الذي يتعرض له أبناؤهم المراهقون بين 13 و16 عامًا، بهدف حماية الفئات الأصغر سنًا من المحتوى غير المناسب.
ورغم أن تيك لوك ليست معتادة على إعطاء الكثير من التصريحات المتعلقة بالأرقام، ولكن المسؤولين خلال الزيارة أكدوا أن الثلاثة أشهر الأخيرة شهدت حذف 200 مليون محتوى مخالف للقواعد التي وضعها التطبيق، فهو إما يحمل انتهاكات للأطفال، أو يدعو للعنف، أو يحض على الكراهية.
ووفقًا لمسؤولي تيك توك، يتم تحديث السياسات بشكل دوري لضمان حماية الأطفال والمراهقين، ومنع بث أي محتوى يخالف معايير التطبيق. وأكدوا أن هناك مجموعة من القواعد التي تعزز بيئة آمنة، وتدعم التفاعل الحقيقي وإنشاء المحتوى الأصلي.
وتؤكد إيلانا روزنزوج، والتي عملت في السابق رئيسا لقسم الثقة والسلامة الدولية بتويتر، إن إرشادات المجتمع نقطة محورية في منظومة عمل مراكز TAC، لذا تخضع لمراجعة مستمرة لمواكبة التغيرات في سلوك المستخدمين والمخاطر الجديدة، بهدف توفير تجربة تجمع بين الأمان والترفيه، وهذين الخطين الذين نسير عليهم دائما.

إيلانا روزنزوج، رئيس السلامة والنزاهة في تيك توك فآسيا والمحيط الهادئ، وتشغل كذلك منصب الرئيس المؤقت لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
وحسب رئيس السلامة والنزاهة في تيك توك آسيا والمحيط الهادئ فأن تيك توك تصدر تقارير شفافية دورية توضّح استجابتها لطلبات الجهات الرسمية الحكومية، سواء لحذف المحتوى المخالف أو لتقديم بيانات المستخدمين وفق الإجراءات القانونية. وتوضح أن كل الطلبات الحكومية تخضع للمراجعة والتدقيق بأكثر من مستوى، ويتم رفض أي طلب لا يتوافق مع القوانين أو معايير المنصة.
طوال الزيارة حرص مسؤولي “تيك توك” على التأكيد التزام المنصة بالشفافية والمساءلة كجزء من استراتيجيتها لتعزيز الثقة الرقمية، وتقول أسماء أنجوم، المدير الاقليمي للسلامة والنزاهة في تيك توك، توفر مراكز الشفافية التابعة لها فرصة للزوار للاطلاع على آليات الأمان وحماية الخصوصية، إلى جانب جولات داخل غرف التحكم للتعرف على سياسات الإشراف على المحتوى.
وفيما يتعلق بمعايير السلامة، تؤكد أنجوم أن المنصة والتي تعد الأكثر انتشارًا بين الشباب والمراهقين، تتخذ إجراءات صارمة لحماية المستخدمين، بما في ذلك حظر المحتوى الذي يروج للتطرف، العنف، الجريمة، والتنمر. كما تمنع المنصة أي محتوى يحرض على الكراهية أو يعرض القُصّر للخطر، مع فرض قيود عمرية وإزالة حسابات من تقل أعمارهم عن 13 عامًا، حسب ما قالت أنجوم، التي عملت فترة كبيرة في قطاعات الاتصالات والألعاب في شركات مختلفة في أسيا.
الثقة وحرب غزة
في حين أن زيارة مركز الشفافية في تيك توك قدمت فرصة قيّمة لفهم منظومة الرقابة والتحكم داخل تيك توك، إلا أنها أكدت أيضًا أهمية النقاش الدائر حول ممارساتها وتأثيرها على الأجيال الجديدة، التي باتت بالنسبة لهم أكثر من منصة ترفيه، فهي تلعب الدور الرئيسي لهم في الحصول على المعلومات، والدليل أحداث غزة الأخيرة، التي لعبت فيها المنصة دورًا هامًا في نقل المعلومات بشفافية ومهنية كبيرة مقارنة ببقية المنصات، خاصة في أول 6 أشهر من الحرب، وإن رفض مسؤولي تيك توك التعليق على الأمر بأي صورة خلال زيارتنا لمركز TAC بسنغافورة.
وقالت إيلانا روزنزوج، التي كانت تعمل محامية في بداية حياتها المهنية:” لا يوجد لدينا قواعد أو اعتبارات خاصة في مركز TAC تتعلق بأي دولة أو إقليم، وفرق العمل لدينا تغطي كل الأقاليم وكل المحتويات بكل اللغات، وليس هناك فريق خاص معني بإقليم بعينه”. وإن أكدت أن اللغة وفهم السياق والدلالات المحلية أمر تأخذه تيك توك بعين الاعتبار، لضمان أن فريق مراكز المساءلة والشفافية به التنوع الكافي لتحقيق رقابة محكمة وعادلة.
وفي النهاية سيتم الحكم على مدى التزام تيك توك بالشفافية ليس فقط من خلال هذه الجولات، ولكن من خلال أفعالها المتسقة مع ما تقوله، وكذلك في مدى التقدم الملموس في معالجة المخاوف المشروعة بشأن خصوصية البيانات، وحماية الأطفال من 13-16 عام، وحوكمة عملية الإشراف على المحتوى، ومدى تأثير علاقتها بشركتها الأم الصينية.
وفي كل الأحوال ماراثون الثقة انطلق بين المنصات الرقمية، وبات هو المعيار الأبرز للحكم والتفضيل بين هذه المنصات، خاصة وأن الأجيال الجديدة تشارك تجاربها وخبراتها، وتسعى دائما للتحرر من أي قيد أو رقابة ترى أنها غير منصة أو عادلة، وفي هذا المارثون يمكن أن نقوم أن تيك توك حتى الآن تسبق بقية المنصات بخطوة.
